جمالية التصوف ـ مفهوماً ولغةً
د.حسين جمعة.
اختار الله تعالى اللغة العربية لتكون اللسان المبلغ للرسالة الإسلامية؛ ويدل هذا الاختيار على دلائل كثيرة زمانية ومكانية وفكرية وفنية ولغوية.......
ولعل من أبرز سمات اللغة العربية أنها تمتلك في طبيعتها ووظيفتها، وفي مستوياتها الأسلوبية القائمة على قوانين تبيح لها التطور من داخلها ما يجعلها أكثر اللغات قدرة على توليد أساليب جمالية وفنية جديدة ترتبط بعواطف البشر وأفكارهم وحاجاتهم... وتكتسب هذه الأساليب جماليات خاصة تبعاً للفكر والثقافة والمشاعر قد لا نرى شبيهاً لها في غيرها من اللغات الحية والمندثرة... وإذا نظرنا إلى لغة التصوف في الأدب العربي قديمه وحديثه؛ وإلى قدرتها على تمثل أفكار أصحابه أدركنا مصداق قوله تعالى: «إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون». (يوسف12/2).
فالتصوف يشكل (في إطار المعارف الإنسانية ولاسيما اللغوية) اتجاهاً فنياً فكرياً ومذهباً اعتقادياً يميزه من غيره لدى كثير من الناس شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً. فالتصوف ـ بهذا المفهوم وبفضل إيمان أصحابه به ـ استطاع أن يقدم نفسه للبشرية كبنية معرفية من نوعٍ ما؛ فضلاً عن كونه نزعة روحانية؛... مما جعله يظهر بقوة في حركة الصراع الروحي والفكري الديني معاً ولاسيما عند العرب والمسلمين؛ ومن الدارسين من رده إلى أقدم من هذا. ومن ثم وجدت مدارس متعددة؛ اختلفت باختلاف تفسير النص الديني والفقهي ورؤيته الكونية والفلسفية.
ومن هنا تطور مفهوم التصوف بتطور الزمن، وتعددت تعريفاته بتعدد عناصره واكتمالها؛ وإن اتفقت في مجملها على الجوهر... فهو عند الجُنَيد (ت 297هـ). في حديثه عن المتصوفة: "هم أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم"، أو هو عند غيْرهِ علم أحكام القلوبِ؛ أو هو قطع العلائق مع الخَلْقِ وربط النفس بالحق والباطن بالظاهر. وعرفه القنوجي بقوله: "علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم بقدر الطاقة البشرية.". (أبجد العلوم قسم 1/ج2، حرف التاء ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1988م).
هذه تعريفات قليلة للتصوف ـ اصطلاحاً ـ وهي تدل على تعدد مفهومه؛ ونرى أن التعدد في الدلالة قد يرجع إلى المعنى اللغوي.... فلم يتفق الدارسون على اشتقاق واحد لمصطلح التصوف والمتصوفة.
ويعد اشتقاق مصطلح التصوف من الصوف أشهر أنماط الاشتقاق اللغوي؛ لأن الصوف يحمل معنى الفقر والخشونة والذل والمسكنة... وكان قد ارتبط بالإيمان لقول النبي الكريم في الحديث الصحيح:"عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان في قلوبكم" (الجامع الصغيرـ /5574/). وعرف عنه (عليه السلام): أنه كان يلبس الصوف، ويرقع القميص(الجامع الصغير/7032/)؛ وأن النبي موسى كان عليه "يوم كلمه ربه كساء من صوف وجبة صوف وكُمَّة صوف؛:وسراويل صوف" (الجامع الصغير)/6203/.........
فلباس الصوف براءة من الكِبْر انظر (الجامع الصغير/3131/). وكذلك الثياب المرقعة؛ فقد ورد في الحديث الحسن: "لأن يلبس أحدكم ثوباً من رقاع شتى خير له من أن يأخذ بأمانته ما ليس عنده"(الجامع الصغير/7217/).
فلُبسة الصوف والخِرَق صارت ذات دلالة على الإيمان ومن ثم التصوف لأن أكثر المتصوفة ارتدوا ذلك وعزفوا عن الدنيا؛ ولهذا قال محيي الدين بن عربي:
يالابساً خِرْقة التصوف ما
عليك فيما لبسته من حَرَجِ
وقال:
ألبست بنتي سفري
خرقة أَهل الأدب
ألبستها ثوب تقى
كل خُلقٍ معجب
وهذا الاشتقاق قد يقارب اشتقاقاً آخر في دلالته فهو مشتق من أوصاف أهل الصُّفَّة؛ والصفة لقب لجماعة من المسلمين الفقراء في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه ممن لم تكن لهم بيوت يأوون إليها... فكانوا يأوون إلى مقعد مغطى بالصوف والخرق خارج المسجد النبوي. وقد ذكّر الكّلاباذي في (التعرف لمذهب أهل التصوف ـ ص 23 ـ بيروت ـ المكتبة العلمية ـ 1980م): "إنما سميت الصوفية كذلك لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة... فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا، ولبسهم زيهم زي أهلها سموا صُفّية وصوفية".
ويرى ـ في هذا المقام ـ بعض الباحثين أن التصوف والمتصوفة نُسبوا إلى صوفة القفا؛ وهي خَصْلة الشعر على قفا الراس.
ثم يذكر الكلاباذي أن اشتقاق الصوفي من الصفاء في قولـه: "قالت طائفة: إنما سميت صوفية لصفاء أسرارها ونقاء أسرارها" ـ (التعرف لمذهب أهل التصوف ـ 21).
وكان القشيري قد رد هذا الاشتقاق ـ (الرسالة القشيرية في علم التصوف 579 ـ مكتبة محمد علي صبح ـ القاهرة ـ 1972م)، كما رد اشتقاقه من الصف الأول... وكذا فعل الكلاباذي في قولـه: "وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في الصَّفّ الأول بين يدي الله عز وجل؛ بارتفاع همهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بين يديه"(التعرف 21). بينما رَدَّ عدد من العلماء والشعراء ذلك كله وجعلوه مشتقاً من (صاف) بمعنى الطاعة والعدل والاستقامة. وقد ورد في اللسان: "صاف عني شَرُّه يصوف صَوْفاً: عَدَلَ، وصاف السهم عن الهدف يصوف ويصيف: عدل عنه" (اللسان ـ صوف ـ ) أي مال يميل."وذلك لأن الصوفية يميلون عن الرذائل والسيئات إلى الفضائل والطاعات" ـ (الغزالي والتصوف الإسلامي ـ للشرباصي ـ ص 148).
ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه المعري في قوله:
صوفية ما ارتضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من طاعة صوفوا
وقال أبو الفتح الصوفي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه فَظنوه مشتقاً من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غَيْر فتىً
صافي فصوفي حتى لقب الصوفي
وفي ضوء ذلك وفي ضوء ما قيل عن نسبة صوفي العربية (إلى الكلمة اليونانية (سوفيا) وتعني الحكمة؛ كما حدثنا البيروني في (الفلسفة الهندية ـ ص 32 ـ المكتبة العصرية ـ بيروت ـ د.ت). "أن عند العرب المسلمين قوماً سلكوا طريق الحكمة فلذلك نسبوا إلى هذه الكلمة (سوف) التي سمي بها حكماء الهنود".... ندرك مدى اختلاف القدماء والمحدثين في اشتقاق كلمة التصوف والمتصوفة والصوفية...
ولا ننسى أن نشير أخيراً إلى عدد آخر من الاشتقاقات اللغوية؛ فمن الناس من نسب الصوفية إلى (الصَّفوانة) وهي نوع من البقل؛ ومنهم من نسبها إلى بني صوفة، وهم جماعة من عرب كانوا يزهدون ويتقللون من الدنيا، وينسبون إلى صوفة وهو الغوث بن مُرّ بن أُدّ.. وكان قومه يخدمون الكعبة في الجاهلية ويجيزون الحاج؛( أي يفيضون بهم ـ وقيل: صوفة قبيلة اجتمعت من قبائل كثيرة.
(انظر اللسان ـ صوف ـ والأنساب ـ للسمعاني 566).
وذلك هومفهوم التصوف ـ اصطلاحاً ولغةًـ وقد ذكر القشيري في رسالته؛ والسراج في اللُّمع عدداً كبيراً من التعريفات تدل على مدى التطور الذي لحق بها؛ وإن ظل التصوف مبنياً على ثلاثة خِصال: "التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل وترك الاختيار".... فهو استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.... أما الصوفية كما يقول السراج في اللمع (ص26-27). فهم: "العلماء بالله وبأحكام الله، العاملون بما علمهم الله تعالى، المتحققون بما استعملهم الله عز وجل، الواجدون بما تحقّقوا؛ الفانون بما وجدوا، لأن كل واحد قد فني بما وجد". فالصوفي منقطع عن الخَلْق متصل بالحق، كما يقول أبو بكر الشبلي (ت 334هـ / 945م) ـ (الرسالة القشيرية 127).
هكذا ندرك أن التصوف نشأ في صميم التدبر والإيمان بالدين الإسلامي، وكان الرسول الكريم وخلفاؤه أزهد الخلق في الدنيا التي جعلوها جسراً للآخرة.... ثم ازدهرت حركة الزهد في البصرة على يد الزهاد (كالحسن البصري) الذي ولد بالمدينة المنورة سنة 21هـ وتوفي بالبصرة سنة 110هـ. وقد وصفه خالد بن صفوان بقولـه: "كان أشبَه للناسِ علانية بسريرة؛ وسريرة بعلانية، وآخذَ الناسِ لنفسه بما يأمره به غيرَهُ؛ ياله من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما في يديه من دينهم"ـ (العقد الفريد 2/230)..... وكانت رابعة العدوية البصرية (95 ـ 185هـ)، أول من حَوَّل الزهد إلى الأفق الصوفي في الحياة وفي الشعر، وهي أول من حَوَّلَ مفهوم الخوف من النار إلى مفهوم الحب الإلهي كما في قولها:
كلهم يعبدون من خوف نار
ويرون النجاة حظاً جزيلا
ليس بي بالجنانِ والنار حظٌّ
أنا لا أبتغي سواك سبيلا
فأمثال هؤلاء الزهاد أخذوا ينظرون في سر العبادات وأحوال القلوب؛ فصاروا أهل الفقه الباطن، واتخذوا لأنفسهم من مصطلحات خاصة كالبسط والقبض والحب والرجاء والهوى والذكر والكشف والحُجب والخليل والخُلَّة والأنيس والمؤانس والعشق الإلهي والتوبة...
ثم زاحمت الكوفة البصرة في التصوف واشتهرت فيه بالفقه الظاهر؛ ثم نشأ صراع كبير بين البلدتين أشبه بالصراع الذي نشأ بينهما في الأدب واللغة وغيرهما ومن أبرز زهاد الكوفة سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج سنة (95هـ)، وطاووس بن كيسان (ت106هـ)، وسفيان الثوري (161هـ)، وكان الجُنَيد أبو القاسم محمد على مذهبه في الزهد والفقه... بينما أخذ الجنيد مذهبه في التصوف عن معروف أبو الحسن سَرِيّ بن المفلس السُّقَطي (ت 25هـ)، وهذا أخذ التصوف عن حبيب العجمي (ت160هـ)، وهو من تتلمذ على يد الحسن البصري.
فأبو القاسم محمد بن الجُنيد الخزار (ت297هـ)، من أشهر علماء التصوف وممن تفرعت عنه الطرق والمذاهب... وإن كان أبو يزيد البسطامي لا يقل عنه مكانة (188ـ 261هـ)، وهو أول من تكلم بالفناء... دون أن نهمل الإشارة إلى إبراهيم بن أدهم (ت161هـ)، الذي قال بالمعرفة الصوفية بطريق المحبة والرمز والإشارة والرؤيا والخلوة...
وهناك أعلام كثيرون للتصوف كالحسن بن منصور الحَلاّج (244 ـ 309هـ)، وهو أول من نادى بوحدة الوجود، والحلول.... وشهاب الدين السَّهْرَوردي (توفي 586هـ)، الذي تحدّث عن مفهوم الإشراق، ومحيي الدين بن عربي (560 ـ 638هـ) الذي أوضح مفهوم وحدة الشهود، ووحدة الوجود.
وإذا كانت مفاهيم التصوف قد نشأت نشأة إسلامية خالصة وتطورت متأثرة بنزعات دينية وسياسية واجتماعية وذاتية في حواضر الإسلام فإنها لم تنقطع عن أثر التيارات الخارجية، وأصولها كالتراث الفلسفي اليوناني والهندي والتأثير الإيراني، وتأثير المسيحية المترهبة.(انظر تاريخ التصوف الإسلامي 31ـ 49). وأياً كان التأثير الأجنبي فإنه قد يتجاوز نطاق المشابهة أو الزخارف والأشكال أحياناً ولكنه لم يكن ليشكل في الأصل جوهر التصوف ولغته؛ لأنهما يتصلان بكل ماهو إسلامي وعربي.....
ولعل جمالية اللغة الصوفية تقوي هذا التفسير الذي نراه، وهو عكس ما ذهب إليه عدد من المستشرقين الذين رأوا في دراساتهم للصوفية أنها ترتبط بكل شيء ما عدا الإسلام. (انظر مدارات الصوفية ـ دار المدى ـ دمشق ـ ط1 ـ 1997م)، و(التحليل النفسي للذات العربية ـ ص 5 ـ علي زيعور ـ دار الأندلس ـ بيروت.).
ونحن لا نشك في أن المفهوم الدلالي للتصوف قد يظهر أثره في صعد شتى في الفكر الإنساني ومذاهبه، وفي حياة الناس المادية والروحية؛ ولكن التحول الفكري الديني، ومن ثم اللغوي قد صار على يد الزهاد المسلمين نمطاً جديداً من العرفان المبكر الذي اتجهت إليه جماعة منهم.
واستطاعوا التعبير عن ذلك بلغة جمالية توازي المقامات الجسدية ثم الروحية لديهم. فأدب الزهد والتصوف منذ القرن الثاني الهجري أخذ يكتسب سمات فنية جديدة؛ فأنغامه تعزف على إيقاع دقات قلب الصوفي، ولغته تتحرك في صميم طهارة جسده من أدران المادية... فالأدب الصوفي بما صار يحمله من زهد ووعظ وصفاء ورجاء جعله بحق ينشأ في وسط عربي إسلامي بعيد عن أي نشأة أخرى، وإن اكتسب مؤثرات أجنبية على مر الزمن بعد ذلك. وتظل لغة التصوف بجمالياتها من أهم الدلائل على نشأته الإسلامية؛ وكانت لغة الشعر العربي المجال الأعظم لأفكار التصوف ولغته... فلو رجع أي منا إلى شعر رابعة العدوية، ثم إلى أدب الزهد في أواخر القرن الهجري الأول ومن ثم القرن الثاني لاتضح له أن التصوف أخذ يشق طريقه بقوة إلى لغة الشعر... ويكسبها جمالاً ساحراً بكثرة الرموز والكنايات والإشارات والمفارقات والألغاز.... ولا بأس أن نقف عند بعض شعر رابعة حيث تقول:
أُحبُّك حُبَّين حُبَّ الهوى
وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حُبُّ الهوى
فذِكْرٌ شُغِلْتُ به عن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ لـه
فكَشْفُكَ لي الحُجْبَ حتى أراكا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
فلغة الحب ظلت قابعة في اصطلاحات الزهاد حتى أبرزتها رابعة؛ وصار الحب على يديها خالصاً لله لا خوفاً من نار ولا طمعاً في جنة.... فحبها له شغلها عن حب الخَلْقِ؛ لذلك عاشت حياتها لذكرهِ ومناجاتهِ في اتصال دائم لأنها عارفة به متشوقة للقائه، فالهوى كما نعرف: "ميل النفس إلى مقتضيات الطبع والإعراض عن الجهة العلوية بالتوجه إلى الجهة السفلية"... (اصطلاحات الصوفية ـ 117). ولكنه عند رابعة معكوس فهي تتطلع إلى مقام المحبة الإلهية في ثقة واطمئنان، وتجعل خَلْوَتها معه سبيلها إليه، فهو الخليل دون غيره كما في قولها:
وتخللت مسلك الروح مني
وبه سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي
وإذا ما سلكتُ كنتَ الخليلا
(الزبيدي ـ إتحاف السادة المتقين 9/277).
والخلْوة كما قال الكاشاني: "محادثة السر مع الحق بحيث لا يرى غيره، أما صورتها فهي ما يتوسل به إلى هذا المعنى من التبتل إلى الله". ـ (اصطلاحات الصوفية ـ 31)...... وذكر الله مرتبط بمناجاته وهو جزء من محبته؛ ومن ثم هو مقام من مقامات الصوفية؛ وكانت رابعة قد أسست له في قولها السابق؛ فالذكر لديها كشف رباني، ونور لها كما تقول أيضاً:
صلاتك نور والعباد رقود
ونومك ضدٌّ للصلاة عنيد
وعمرك غُنم إن عقلت ومهلة
يسير ويفنى دائماً ويبيد
فالنور بريدُ الذاكرين، وهو اسم من أسماء الله؛ لأن الله سبحانه يتجلى باسمه الظاهر الممثل بالأكوان ومنها النور، كما يراه أهل التصوف، والنور "قد يطلق على كل ما يكشف المستور من العلوم الذاتية، والواردات الإلهية التي تطرد الكون عن القلب" (اصطلاحات الصوفية ـ106).
فكل علم إنما هو من علم عَلاَّم الغيوب؛ والذكر هو الذي يؤدي إلى ذلك كما يقول ابن عربي؛ وكأنه يذكرنا بما قالته رابعة قبل قليل:
فالذكر يَحْجُبني والذكر يكشف لي
خَبْء السماء وخَبْءَ الأرضِ في نَبَأِ
فالذكر الأول الذي يحجب المتصوف إنما هو ذكر الكون والحياة، فلا يستطيع بوساطته أن يكشف الحقيقة؛ لكن الذكر الثاني وهو ذكر الله، يكشف له علم مالم يكن قد عرفه وخبره؛ فما لم يعلم يكشفه له الله، ولهذا قال أيضاً:
ومن تحقق بالآداب أَجْمَعِها
فكل عِلْم يُرى منه فمن أَدَبهْ
والتوبة أول مقام من مقامات التصوف؛ ـ وهذا المصطلح استعمل في بداية ظهوره في الإسلام استعمالاً دينياً خالصاً؛ كغيره من المصطلحات الدينية؛ ثم تحول إلى المقامات الصوفية كما سبق ذكرها. ففي القرآن تحمل طابعاً دينياً صرفاً، كمفهوم التوبة في قول الله تعالى: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (البقرة ـ 2/222)...... فالتوبة رجوع العبد إلى الله عازفاً عن كل ما يغضبه... وتتجلى التوبة بالسلوك والفعل.... وقد رأينا أن رابعة العدوية تقرر توبة الاجتباء والاصطفاء؛ توبة المحبين عن العجز على القيام بحق المحبوب ولهذا تقول: (الروض الفائق ـ 149).
يا حبيبَ القلبِ ومالي سواكا
فارحم اليوم مذنباً قد أتاكا
يا رجائي وراحتي وسروري
قد أبى القلب أن يجيبّ سواكا
هكذا ندرك أن التصوف عند رابعة ومن عاصرها، وما أسسه الدين الإسلامي من زهد وتقى وإيمان قد جعل المؤمن يتحول عن مطامع النفس وشهواتها وانحرافها ليصل إلى مرضاة الله عنه... ومن ثم أصبح التصوف مذهباً فكرياً وروحياً ينبع من تعاليم الدين ويرتبط باجتهادات أصحابه ورواده كإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري وسعيد بن جبير وحبيب الأعجمي أبو سليمان داود الطائي (ت 160 هـ/ 777م). وغيرهم ممن عاصرهم أو جاء بعدهم...
فالتصوف في أدب الرواد وأفكارهم يتصف بخصائص روحية سامية؛ ويقوم على لغة خاصة به في وضعها الظاهري المفرد والمركب؛ وفي واقعها المباشر القريب والملموس في بعدها التأويلي..... فهي لغة حدسية تصورية تنحت مصطلحاتها من وظيفتها.
ولهذا لابد من الإشارة إلى متلقي النص الصوفي ولغته... فأي قارئ لهما سينتهي إلى خلط محقق إن لم يدرك الجمالية الخاصة بلغة المتصوف... فهذه اللغة تظهر في دلالاتها المباشرة للوهلة الأولى أنها منفتحة على ثقافة المتلقي زماناً ومكاناً؛ وهو قادر على تأويلها والتعبير عنها؛ ولكنها في الحقيقة ترتبط بمصطلحات التصوف ولغته وتاريخه وثقافته وتطورها... فضلاً عن تجربة أصحابه... وهذا كله يناقض مفهوم دراسة اللغة الأدبية وفق مفهوم نظرية النص المفتوح الذي نادى به أصحاب الحداثة؛ وفي طليعتهم رولان بارت. فاللغة عند المتصوفة نسق كبير ومتعدد لرموز ذات طابع تصويري غامض وخاص....
ولهذا، فانفتاح المتلقي على لغة النص الصوفي وجماليته يظل مشدوداً إلى قصدية صاحبه وتجربته وما يتعلق بمفاهيم التصوف ولغته إلغازاً وترميزاً وإشارة وإيحاء... وهذا ما عبر عنه ابن عربي في قوله: (الفتوحات المكية 1/174).
منازل الكون في الوجود
منازل كلها رموز
وقال : (الفتوحات المكية 1/188).
ألا إن الرموز دليل صدق
على المعنى المغيب في الفؤادِ
وإن العالمين لـه رموز
وألغاز ليدعى بالعبادِ
فمعرفة لغة التصوف لا تؤخذ بظاهرها؛ وإنما تحتاج إلى فك رموزها وتأويل دلالتها البعيدة.... لأنها اعتمدت على مفهوم قَلْبِ اللغة.... فقد كنا ننطلق من المفهوم الحسي إلى المجرد فصارت لغة التصوف تنطلق من المجرد إلى الحسي... فهي لغة تجريدية إشارية وإن استعملت لغة محسوسة وعناصر فنية مشهورة كالخمرة والمرأة واللون.... وقد أدرك اليافي هذا كله فقال: "التعبير الصوفي يترجح بين الطرفين: الرمز من جهة والتجريد من جهة المقابلة. فالشاعر إما أن يعتمد الرمز والإشارة والإيحاء والاستعارة والتشبيه وما إلى ذلك لتقريب أفكاره من المألوف المتعارف عليه وللإيحاء بعواطفه ولتصوير بعض ما عاناه؛ وإما أن يدرك في تجربته من أسرار تتأتى على أدق أساليب البيان وتصعب على وسائل التعبير" ـ (دراسات فنية في الأدب العربي ـ 317).
فانكشاف عالم التصوف بما هي عليه اللغة الشعرية المألوفة لا يعني شيئاً، والقصدية لا تتعلق بالمستوى الظاهري للغة التصوف وإنما تتصل بالمستوى الباطني الخفي... فنحن أمام انزياح لغوي وعجيب؛ وأمام علاقات فنية مدهشة، ومصطلحات ذات دلالة بعيدة.... فاللغة الصوفية تضعنا في حضرة وجود مدهش في القرب ولكنه يتأبى على الفهم إلا بعد تجليات وكشف لحجب التجربة في الذات والمجتمع في إطار الزمان والمكان والثقافة والدين والاتجاه....
لهذا كله فالألفاظ والتراكيب والصور الشعرية في الحب والغزل والخمْرة والسكر والمرأة والطبيعة، ومن ثم في الحواس والأعداد والحروف، وفي الحركات والسكنات، والإيقاع والأنغام، تستعمل استعمالاً مغايراً لاستعمالات بقية الناس والشعراء. فقد اقترن القدسي لدى المتصوفة بالإنساني والكوني، وأضحى الجمال المادي جمالاً معنوياً لعالم غير متناهٍ.
ولهذا كله فالعناصر الفنية مرتبطة باللغة؛ وبما تقوم عليه من رموز لتجليات النفس والفكر؛ واصطبغت بمفارقات عظيمة الإلغاز... وإن من يتأمل هذه المفارقات اللغوية لا يكفيه أن يتوقف عند المستوى النظري واللغوي والمعجمي لها، وإنما يستلزم التأمل فيها الوصول إلى ما تقوم عليه من معطيات عرفانية ومعرفية... فالوظيفة التي تؤديها لغة التصوف ليست مجرد وظيفة إبلاغية أو استشهادية أو انطباعية وإنما هي وظيفة فكرية نفسية تأثيرية إفهامية ذات أبعاد محددة عن أفكار صاحبها ومشاعره الخاصة.
وبهذا لا يستطيع المتلقي أو القارئ أن يتماهى مع لغة الصوفي إذا لم يندمج بمعارفه ومعارجه ويضبط التقاطعات الرمزية لتلك اللغة... وهذا لا يمثل عجزاً صريحاً في الإدراك.... وإنما يجسد وعياً فاعلاً لكيفية فهم اللغة الخاصة التي يستعملها الصوفي في معارجه العقلية ومقاماته الروحية والمراتب العلية القدسية....
فلغة الصوفي ليست محايدة في وضْعها التعبيري وفي حوارها المناجي للذات ومن ثم مناجاة الذات الإلهية، وهي غير مدركة في صراحتها.... ولكن هذا لا يعني ـ على تشابهها الظاهري ـ أنها متماثلة أو معقدة؛ أو غريبة؛ بل هي متعددة لتعدد المعارج بتعدد أصحابها؛ إذ لكل صوفي معراجه؛ وكل واحد منهم لا يسرف في توضيح معراجه الذي يصعد إليه في مناجاته لله ومحبته لذاته.... ومن ثم تنقاد بعد استغلاق إذا فهمنا رموزها.....
ولا يضيرنا مرة أخرى أن نرجع إلى مفهوم الحب الإلهي؛ فحين فتحت رابعة العدوية باب المحبة لله لما خصها به من نعمائه فإنها فنيت في الله؛ وصار حبها لله يحمل أنواعاً جديدة؛ منها الحب المشاهد باليقين وبصفات الله، ومنها الحب لذات الحب؛ ثم الحب لذات المحبوب.... كما في قوله: (الروض الفائق ـ 118).
راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوض
وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنت أشاهد حسنه
فهو محرابي؛ إليه قبلتي
إن أَمت وجداً ومن ثم رضاً
واعنائي في الورى! واشقوتي!!
يا طبيب القلب يا كل المنى
جُد بوصلٍ منك يشفي مهجتي
فالحب الإلهي قد صار الحال الغالب للصوفية حتى استلمه ابن الفارض المتوفى (632هـ)، فغدا بحق سلطان العاشقين وإمام المحبين، كما في قوله: (168).
فمن لم يمت في حبه لم يعش به
ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
ثم أصبح الحب الإلهي عند ابن عربي (ت638هـ) ديناً يدين به وشوقه الأبدي إلى الله وحده، كما في قوله:
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه، فالدين ديني وإيماني
وارتبط الحب الإلهي بجملة من المقامات الروحية الممثلة بالخلوة والخلة والتوبة والخوف والرضا... ولكل رموزه اللغوية وإشاراته التأويلية الصوفية.
فاللغة عند المتصوفة لغة حوار داخلي؛ ومن ثم فهي كأنها لغة صامتة يتم الإشهاد بها على الانتماء إلى بعد إشاري وإيحائي لا بعد ملموس وواضح........ ثم هي لغة ذوقية روحانية أساسها الجذب والفيض...... والرمز....
جمالية لغة التصوف تنبع من أبعادها الرمزية للألفاظ والتراكيب والصور الشعرية... فالخمرة ـ مثلاً ـ وما يرتبط بها من مصطلحات النشوة والسكر والشرب... لا ترتبط بمفهوم تاريخي أو وصف مادي ظاهري، ولا تحمل الوظيفة القديمة التي عرفها الشعراء والناس.... لوناً وطعماً وصفاء و..... وسقاة وأواني وحانات... فالصوفي يستعمل ذلك كله؛ وقد تخدعك طرائقه الفنية إذا تسرعت بالحكم عليها في ضوء ما انتهى إلينا من طرائق وصف الخمرة.... لأن وظيفتها عنده مغايرة تمام المغايرة للمألوف...
فالخمرة لديه هي خمرة المعرفة، ويشربها العارفون، فتُحْدِث فيهم أثراً عجيباً وهو السكر من نشوة المعرفة... والسكر ـ كما قال الكاشاني ـ : "الحيرة بين الفناء والوجود في مقام المحبة الواقعة بين أحكام الشهود والعلم؛ إذ الشهود يحكم بالفناء، والعلم يحكم بالوجود"(اصطلاحات الصوفية ـ 206).
فنشوة الحب الإلهي عند الصوفي يطلق عليها (السكر)، وهي تشبه في آثارها إلى حد كبير السكر الحسي؛ ومراتبها الأربع (الذوق والشرب والري والسكر). ولهذا استعان الصوفي بالخمرة وتغنى بها حتى اتهم بالسكر والعربدة... وقدتحدَّثت رابعة العدوية عن شيء من ذلك في معرض قولها المنسوب إليها: (رابعة العدوية ـ محمد عطية خميس 97).
كأسي وخمري والنديم ثلاثة
وأنا المشوقة في المحبة رابعهْ
كاس المسرة والنعيم يديرها
ساقي المدام على المدى متتابعهْ
فإذا نظرت فلا أرى إلا له
وإذا حضرت فلا أُرى إلا معه
يا عاذلي!! إني أحب جماله
تالله؛ ما أُذْني لعذلك سامعهْ
فلو تركنا مسألة الإلغاز في العدد في بيتها الأول، ما غفلنا عن ذكرها لأدوات الخمرة وصفاتها وسقاتها وكيفية شربها؛ ومن ثم الوصول إلى حالة الانبساط والانتشاء... فهي منتشية بذكر الله... فخمرتها خمرة الحب الإلهي التي تشربها من كؤوس العارفين كما تقول: (عقلاء المجانين ـ للنيسابوري 112).
قلوب العارفين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرونا
وألسنة بسر قد تناجي
يغيب عن الكرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغير ريش
إلى ملكوت رب العالمينا
فنسقيها شراب الصدق صرفاً
وتشرب من كؤوس العارفينا
ولسنا الآن في معرض تقصي اختلاف أهل التصوف لمفهوم السكر والصحو، وما الذي يرونه فيهما؛ ولكننا ندرك أن لهم جمالية خاصة في أسلوب ذكر الخمرة ومصطلحاتها فهو يجسد: "أسلوباً رمزياً حافلاً بالثراء؛ يلوحون به على طريقتهم إلى مجموعة ثابتة من المعاني الذوقية. وقد أعطى الصوفية هذا المعجم الخمري دلالات جديدة خرجت بالخمر إلى دائرة الرمز الصوفي. والصوفية يستخدمون الألفاظ نفسها التي نجدها في شعر الخمر الحسية كالندمان والدنان؛ إلا أنهم يشيرون بهذه الألفاظ إلى معاني الحب والفناء والاتحاد". (شعر ابن الفارض ـ دراسة في فن الشعر الصوفي 132 عاطف جودة نصر).
وكل من يتأمل الأبيات السابقة يدرك ما تكشفه من جمالية فريدة في الألفاظ والتراكيب والصورة الشعرية الممثلة من اجتماع الحركة والسكون، والجميل والقبيح في النفس والفكر... فجمالية اللغة تنقل المرء من الذوق إلى حال المحبة والفناء... فكلما استوحشت رابعة ونفرت من الناس ازدادت يقيناً بألفتها للمحبة الإلهية في حال الانفراد والخلوة؛ وهي تقف في محراب اليقين العرفاني.
وأكتفي بهذا القدر من جمالية الرمز الصوفي في الخمرة وهو لا يقل جمالية وسحراً عن ذكر المتصوفة للرمز في الطبيعة والمرأة والعدد... و.... لنقف عند جوانب لغوية أخرى.
ومن هنا فإن المتصوفة وجهوا اللغة بألفاظها وتراكيبها وأساليبها في اتجاه يخّتصون به دون غيرهم ولهذا قال الحلاج: "من لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا".
فهي ـ على اتصالها بألفاظ القرآن والإسلام؛ وعلى انطباعها بالثقافة الإسلامية ـ ذات دلالة خاصة في المعجم اللغوي الصوفي لفظاً وتركيباً وبلاغة وإيقاعاً...
ولهذا تصبح للألفاظ الآتية ـ على سبيل المثال ـ أنساق دلالية وأسلوبية دقيقة ورمزية تعبر عما يختلج في نفوس المتصوفة من مشاعر وأفكار: (الخلوة والحبيب والحضرة والوجد والرضا والهوى، والشقاوة والوصل والمنى والمجاورة والنشأة والنشوة.... والبصيرة والأنس والعين والصَّبا والنور والصدق والحجاب والسرور والرجاء.... فالحجاب: "انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحقائق"ـ (اصطلاحات الصوفية ـ 26). والصَّبا: "هي النفحات الرحمانية الآتية من جهة مشرق الروحانيات والدواعي الباعثة على الخير" ـ (اصطلاحات الصوفية ـ 47). والرجاء: "توقع النجاة، وصورة الرجاء في الأبواب: رجاء الثواب بالاجتهاد في العمل ودرجته في المعاملات رجاء القرب والكرامة بالحرمة والرعاية" (اصطلاحات الصوفية ـ 135). والسرور: هو "ابتهاج في الباطن يظهر به تهلل ونضرة في الظاهر، وهو سرور شهود يكشف حجب الصفات بأسرها ويخلص من رقة التكاليف كلها" (اصطلاحات الصوفية ـ 193). ونجد مثل هذا كله في قول رابعة العدوية: (الروض الفائق ـ 118).
راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً
وهواه في البرايا محنتي
يا سروري وحياتي دائماً
نشأتي منك، وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلق جمعاً أرتجي
منك وصلاً، فهو أقصى منيتي.
وتغدو التراكيب والأساليب من جنس الألفاظ ودلالتها الوظيفية لدى الصوفيّة؛ فهي مجازية رمزية... وكلها تجليات للنفس والفكر؛.... فالصيغ اللغوية ذات جمالية جذابة ممتعة في المفارقات الملغزة بين الفعل والانفعال والعقل والعاطفة، والمدرك والغيبي؛ والفردي والكوني.... والحسي والمجرد...
ومن هنا يصبح لظاهرة النداء وأسلوب التكرار وغيرهما وجوه بلاغية ودلالية عجيبة؛ تدل على خطاب شعري رفيع المستوى، وكلها تدل على وجد فياض بين المناجي وربه.....
وهي تدل على منهج جمالي استبطاني تأملي لإخراج غير المدرك في صورة بديعة هدفها إيجاد علاقة متميزة وفاعلة بين الجمال والخير؛ فالنفس تشعر في الخير: "بجمال علوي مجرد من عوارض المحسوس" ـ (الرمز الشعري ـ101)..... مما جعل التراكيب الشعرية ذات بنيات جمالية تناظر الأنشطة النفسية والفكرية وليست مجرد تراكمات مجازية ورمزية.
وكذا نجد في جمالية الإيقاع والموسيقا، فالنداء ليس مجرد بنية جمالية تموج بالمناجاة والابتهال؛ والتكرار ليس مجرد تكرار للفظ أو معنى يعبر عن فيض العاطفة الشفافة، وإنما هما ظواهر إيقاعية متناغمة ومتّسقة مع ذلك كله. وهذا كله نزع بالشعر الصوفي إلى التقسيم والتشطير والتخميس..... وكأنه ما قيل إلا لينشد في حلقات الذكر التي شاعت فيما بعد عند المتصوفة.... فإذا كانت اللغة الصوفية الرمزية تنبع من عقال الفكر؛ فإنها مبنية على بنىً موسيقية معادلة لذلك في صميم المشاعر والتأثير في الترصيع والتدبيج.....
وأينما تلفت المرء في الشعر الصوفي وقام برصد دقيق للغته وأساليبه اهتدى إلى ذلك سواء بالأمثلة السابقة أم في غيرها. فلغة التصوف في جماليتها المميزة لها تخلق وحدة فنية ومن ثم شعورية وفكرية ترتفع بالمشاعر وهي تعبر عن تجربة عرفانية فريدة تكشف الدلالة بوعي مرهف وحس وثاب قائمة على قصدية منفتحة على تصور شديد الخصوصية. وكذلك هي لغة المتصوفة التي اخترعوها، فهي على رقتها وسهولتها وتنوعها ذات دلالة اشتقاقية خاصة.
لهذا نقول: "أياً كان الحديث عن لغة التصوف وجماليتها، فإنه لا يحاط بها؛ لأن كل عنصر جمالي فيها؛ وفي بنيتها الفنية ووظيفتها الدلالية يحتاج إلى درس مستفيض.... ويكفي ما قبسنا منها ليكون صورة مضيئة لدراسات شتى، على أهمية ما صدر من دراسات في التصوف قديماً وحديثاً.... ولعل من أحسن الأمثلة قول رابعة العدوية الذي يتضمن شيئاً مما ذكرناه: (الروض الفائق ـ 117).
يا مؤنس الأبرار في خلواتهم
ا خير من حَلَّت به النُزَّالُ
من ذاق حبك لا يزال متيماً
مرح الفؤاد ـ متيماً ـ بلبالُ
من ذاق حبك لا يُرى مبتسماً
من طول حُزْنٍ في الحشا إشعال.
ومما تقدم كله، نخلص إلى أن جمالية لغة التصوف تكمن في كونها ذات معان وأساليب تدور على ما اتفق عليه أهل التصوف... وحين يتوقع أحدنا أنه اطلع على دلالتها وتعبيراتها فإن أشياء جديدة تبدأ بالظهور وفق مفهوم الوجد والفيض وتجليات الحدس والنفس.... في صميم الفكر التأملي والبنى المعرفية لأفكارهما وتجريداتها الرمزية.
لهذا إذا ظن المتلقي أنه قادر على إدراك تلك الجمالية في إطار التقابل بين لغة التصوف وما انطوت عليه من دلائل معجمية، أو من أساليب موروثة في البلاغة أو ما اختزنه من ثقافة وتجربة قديمة أو حديثة فإنه لن يجني من النص الصوفي إلا السراب.
فمتلقي النص الصوفي عليه أن يقوم بعملية رصد واختراق للغة المتصوفة وكناياتهم واستعاراتهم ورموزهم وأن يتفاعل فيها محاولاً تمثل التجربة ومن ثم فهم ملابساتها.... ليقبض على طبيعتها وجمالياتها.....
المصدر: مجلة الموقف الأدبي
مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 364 آب 2001
د.حسين جمعة.
اختار الله تعالى اللغة العربية لتكون اللسان المبلغ للرسالة الإسلامية؛ ويدل هذا الاختيار على دلائل كثيرة زمانية ومكانية وفكرية وفنية ولغوية.......
ولعل من أبرز سمات اللغة العربية أنها تمتلك في طبيعتها ووظيفتها، وفي مستوياتها الأسلوبية القائمة على قوانين تبيح لها التطور من داخلها ما يجعلها أكثر اللغات قدرة على توليد أساليب جمالية وفنية جديدة ترتبط بعواطف البشر وأفكارهم وحاجاتهم... وتكتسب هذه الأساليب جماليات خاصة تبعاً للفكر والثقافة والمشاعر قد لا نرى شبيهاً لها في غيرها من اللغات الحية والمندثرة... وإذا نظرنا إلى لغة التصوف في الأدب العربي قديمه وحديثه؛ وإلى قدرتها على تمثل أفكار أصحابه أدركنا مصداق قوله تعالى: «إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون». (يوسف12/2).
فالتصوف يشكل (في إطار المعارف الإنسانية ولاسيما اللغوية) اتجاهاً فنياً فكرياً ومذهباً اعتقادياً يميزه من غيره لدى كثير من الناس شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً. فالتصوف ـ بهذا المفهوم وبفضل إيمان أصحابه به ـ استطاع أن يقدم نفسه للبشرية كبنية معرفية من نوعٍ ما؛ فضلاً عن كونه نزعة روحانية؛... مما جعله يظهر بقوة في حركة الصراع الروحي والفكري الديني معاً ولاسيما عند العرب والمسلمين؛ ومن الدارسين من رده إلى أقدم من هذا. ومن ثم وجدت مدارس متعددة؛ اختلفت باختلاف تفسير النص الديني والفقهي ورؤيته الكونية والفلسفية.
ومن هنا تطور مفهوم التصوف بتطور الزمن، وتعددت تعريفاته بتعدد عناصره واكتمالها؛ وإن اتفقت في مجملها على الجوهر... فهو عند الجُنَيد (ت 297هـ). في حديثه عن المتصوفة: "هم أهل بيت واحد لا يدخل فيهم غيرهم"، أو هو عند غيْرهِ علم أحكام القلوبِ؛ أو هو قطع العلائق مع الخَلْقِ وربط النفس بالحق والباطن بالظاهر. وعرفه القنوجي بقوله: "علم يعرف به كيفية ترقي أهل الكمال من النوع الإنساني في مدارج سعادتهم، والأمور العارضة لهم في درجاتهم بقدر الطاقة البشرية.". (أبجد العلوم قسم 1/ج2، حرف التاء ـ وزارة الثقافة ـ دمشق 1988م).
هذه تعريفات قليلة للتصوف ـ اصطلاحاً ـ وهي تدل على تعدد مفهومه؛ ونرى أن التعدد في الدلالة قد يرجع إلى المعنى اللغوي.... فلم يتفق الدارسون على اشتقاق واحد لمصطلح التصوف والمتصوفة.
ويعد اشتقاق مصطلح التصوف من الصوف أشهر أنماط الاشتقاق اللغوي؛ لأن الصوف يحمل معنى الفقر والخشونة والذل والمسكنة... وكان قد ارتبط بالإيمان لقول النبي الكريم في الحديث الصحيح:"عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان في قلوبكم" (الجامع الصغيرـ /5574/). وعرف عنه (عليه السلام): أنه كان يلبس الصوف، ويرقع القميص(الجامع الصغير/7032/)؛ وأن النبي موسى كان عليه "يوم كلمه ربه كساء من صوف وجبة صوف وكُمَّة صوف؛:وسراويل صوف" (الجامع الصغير)/6203/.........
فلباس الصوف براءة من الكِبْر انظر (الجامع الصغير/3131/). وكذلك الثياب المرقعة؛ فقد ورد في الحديث الحسن: "لأن يلبس أحدكم ثوباً من رقاع شتى خير له من أن يأخذ بأمانته ما ليس عنده"(الجامع الصغير/7217/).
فلُبسة الصوف والخِرَق صارت ذات دلالة على الإيمان ومن ثم التصوف لأن أكثر المتصوفة ارتدوا ذلك وعزفوا عن الدنيا؛ ولهذا قال محيي الدين بن عربي:
يالابساً خِرْقة التصوف ما
عليك فيما لبسته من حَرَجِ
وقال:
ألبست بنتي سفري
خرقة أَهل الأدب
ألبستها ثوب تقى
كل خُلقٍ معجب
وهذا الاشتقاق قد يقارب اشتقاقاً آخر في دلالته فهو مشتق من أوصاف أهل الصُّفَّة؛ والصفة لقب لجماعة من المسلمين الفقراء في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه ممن لم تكن لهم بيوت يأوون إليها... فكانوا يأوون إلى مقعد مغطى بالصوف والخرق خارج المسجد النبوي. وقد ذكّر الكّلاباذي في (التعرف لمذهب أهل التصوف ـ ص 23 ـ بيروت ـ المكتبة العلمية ـ 1980م): "إنما سميت الصوفية كذلك لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة... فلما كانت هذه الطائفة بصفة أهل الصفة فيما ذكرنا، ولبسهم زيهم زي أهلها سموا صُفّية وصوفية".
ويرى ـ في هذا المقام ـ بعض الباحثين أن التصوف والمتصوفة نُسبوا إلى صوفة القفا؛ وهي خَصْلة الشعر على قفا الراس.
ثم يذكر الكلاباذي أن اشتقاق الصوفي من الصفاء في قولـه: "قالت طائفة: إنما سميت صوفية لصفاء أسرارها ونقاء أسرارها" ـ (التعرف لمذهب أهل التصوف ـ 21).
وكان القشيري قد رد هذا الاشتقاق ـ (الرسالة القشيرية في علم التصوف 579 ـ مكتبة محمد علي صبح ـ القاهرة ـ 1972م)، كما رد اشتقاقه من الصف الأول... وكذا فعل الكلاباذي في قولـه: "وقال قوم: إنما سموا صوفية لأنهم في الصَّفّ الأول بين يدي الله عز وجل؛ بارتفاع همهم إليه، وإقبالهم بقلوبهم عليه، ووقوفهم بين يديه"(التعرف 21). بينما رَدَّ عدد من العلماء والشعراء ذلك كله وجعلوه مشتقاً من (صاف) بمعنى الطاعة والعدل والاستقامة. وقد ورد في اللسان: "صاف عني شَرُّه يصوف صَوْفاً: عَدَلَ، وصاف السهم عن الهدف يصوف ويصيف: عدل عنه" (اللسان ـ صوف ـ ) أي مال يميل."وذلك لأن الصوفية يميلون عن الرذائل والسيئات إلى الفضائل والطاعات" ـ (الغزالي والتصوف الإسلامي ـ للشرباصي ـ ص 148).
ولعل هذا المعنى هو الذي أشار إليه المعري في قوله:
صوفية ما ارتضوا للصوف نسبتهم
حتى ادعوا أنهم من طاعة صوفوا
وقال أبو الفتح الصوفي:
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا
فيه فَظنوه مشتقاً من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غَيْر فتىً
صافي فصوفي حتى لقب الصوفي
وفي ضوء ذلك وفي ضوء ما قيل عن نسبة صوفي العربية (إلى الكلمة اليونانية (سوفيا) وتعني الحكمة؛ كما حدثنا البيروني في (الفلسفة الهندية ـ ص 32 ـ المكتبة العصرية ـ بيروت ـ د.ت). "أن عند العرب المسلمين قوماً سلكوا طريق الحكمة فلذلك نسبوا إلى هذه الكلمة (سوف) التي سمي بها حكماء الهنود".... ندرك مدى اختلاف القدماء والمحدثين في اشتقاق كلمة التصوف والمتصوفة والصوفية...
ولا ننسى أن نشير أخيراً إلى عدد آخر من الاشتقاقات اللغوية؛ فمن الناس من نسب الصوفية إلى (الصَّفوانة) وهي نوع من البقل؛ ومنهم من نسبها إلى بني صوفة، وهم جماعة من عرب كانوا يزهدون ويتقللون من الدنيا، وينسبون إلى صوفة وهو الغوث بن مُرّ بن أُدّ.. وكان قومه يخدمون الكعبة في الجاهلية ويجيزون الحاج؛( أي يفيضون بهم ـ وقيل: صوفة قبيلة اجتمعت من قبائل كثيرة.
(انظر اللسان ـ صوف ـ والأنساب ـ للسمعاني 566).
وذلك هومفهوم التصوف ـ اصطلاحاً ولغةًـ وقد ذكر القشيري في رسالته؛ والسراج في اللُّمع عدداً كبيراً من التعريفات تدل على مدى التطور الذي لحق بها؛ وإن ظل التصوف مبنياً على ثلاثة خِصال: "التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل وترك الاختيار".... فهو استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريده.... أما الصوفية كما يقول السراج في اللمع (ص26-27). فهم: "العلماء بالله وبأحكام الله، العاملون بما علمهم الله تعالى، المتحققون بما استعملهم الله عز وجل، الواجدون بما تحقّقوا؛ الفانون بما وجدوا، لأن كل واحد قد فني بما وجد". فالصوفي منقطع عن الخَلْق متصل بالحق، كما يقول أبو بكر الشبلي (ت 334هـ / 945م) ـ (الرسالة القشيرية 127).
هكذا ندرك أن التصوف نشأ في صميم التدبر والإيمان بالدين الإسلامي، وكان الرسول الكريم وخلفاؤه أزهد الخلق في الدنيا التي جعلوها جسراً للآخرة.... ثم ازدهرت حركة الزهد في البصرة على يد الزهاد (كالحسن البصري) الذي ولد بالمدينة المنورة سنة 21هـ وتوفي بالبصرة سنة 110هـ. وقد وصفه خالد بن صفوان بقولـه: "كان أشبَه للناسِ علانية بسريرة؛ وسريرة بعلانية، وآخذَ الناسِ لنفسه بما يأمره به غيرَهُ؛ ياله من رجل استغنى عما في أيدي الناس من دنياهم، واحتاجوا إلى ما في يديه من دينهم"ـ (العقد الفريد 2/230)..... وكانت رابعة العدوية البصرية (95 ـ 185هـ)، أول من حَوَّل الزهد إلى الأفق الصوفي في الحياة وفي الشعر، وهي أول من حَوَّلَ مفهوم الخوف من النار إلى مفهوم الحب الإلهي كما في قولها:
كلهم يعبدون من خوف نار
ويرون النجاة حظاً جزيلا
ليس بي بالجنانِ والنار حظٌّ
أنا لا أبتغي سواك سبيلا
فأمثال هؤلاء الزهاد أخذوا ينظرون في سر العبادات وأحوال القلوب؛ فصاروا أهل الفقه الباطن، واتخذوا لأنفسهم من مصطلحات خاصة كالبسط والقبض والحب والرجاء والهوى والذكر والكشف والحُجب والخليل والخُلَّة والأنيس والمؤانس والعشق الإلهي والتوبة...
ثم زاحمت الكوفة البصرة في التصوف واشتهرت فيه بالفقه الظاهر؛ ثم نشأ صراع كبير بين البلدتين أشبه بالصراع الذي نشأ بينهما في الأدب واللغة وغيرهما ومن أبرز زهاد الكوفة سعيد بن جبير الذي قتله الحجاج سنة (95هـ)، وطاووس بن كيسان (ت106هـ)، وسفيان الثوري (161هـ)، وكان الجُنَيد أبو القاسم محمد على مذهبه في الزهد والفقه... بينما أخذ الجنيد مذهبه في التصوف عن معروف أبو الحسن سَرِيّ بن المفلس السُّقَطي (ت 25هـ)، وهذا أخذ التصوف عن حبيب العجمي (ت160هـ)، وهو من تتلمذ على يد الحسن البصري.
فأبو القاسم محمد بن الجُنيد الخزار (ت297هـ)، من أشهر علماء التصوف وممن تفرعت عنه الطرق والمذاهب... وإن كان أبو يزيد البسطامي لا يقل عنه مكانة (188ـ 261هـ)، وهو أول من تكلم بالفناء... دون أن نهمل الإشارة إلى إبراهيم بن أدهم (ت161هـ)، الذي قال بالمعرفة الصوفية بطريق المحبة والرمز والإشارة والرؤيا والخلوة...
وهناك أعلام كثيرون للتصوف كالحسن بن منصور الحَلاّج (244 ـ 309هـ)، وهو أول من نادى بوحدة الوجود، والحلول.... وشهاب الدين السَّهْرَوردي (توفي 586هـ)، الذي تحدّث عن مفهوم الإشراق، ومحيي الدين بن عربي (560 ـ 638هـ) الذي أوضح مفهوم وحدة الشهود، ووحدة الوجود.
وإذا كانت مفاهيم التصوف قد نشأت نشأة إسلامية خالصة وتطورت متأثرة بنزعات دينية وسياسية واجتماعية وذاتية في حواضر الإسلام فإنها لم تنقطع عن أثر التيارات الخارجية، وأصولها كالتراث الفلسفي اليوناني والهندي والتأثير الإيراني، وتأثير المسيحية المترهبة.(انظر تاريخ التصوف الإسلامي 31ـ 49). وأياً كان التأثير الأجنبي فإنه قد يتجاوز نطاق المشابهة أو الزخارف والأشكال أحياناً ولكنه لم يكن ليشكل في الأصل جوهر التصوف ولغته؛ لأنهما يتصلان بكل ماهو إسلامي وعربي.....
ولعل جمالية اللغة الصوفية تقوي هذا التفسير الذي نراه، وهو عكس ما ذهب إليه عدد من المستشرقين الذين رأوا في دراساتهم للصوفية أنها ترتبط بكل شيء ما عدا الإسلام. (انظر مدارات الصوفية ـ دار المدى ـ دمشق ـ ط1 ـ 1997م)، و(التحليل النفسي للذات العربية ـ ص 5 ـ علي زيعور ـ دار الأندلس ـ بيروت.).
ونحن لا نشك في أن المفهوم الدلالي للتصوف قد يظهر أثره في صعد شتى في الفكر الإنساني ومذاهبه، وفي حياة الناس المادية والروحية؛ ولكن التحول الفكري الديني، ومن ثم اللغوي قد صار على يد الزهاد المسلمين نمطاً جديداً من العرفان المبكر الذي اتجهت إليه جماعة منهم.
واستطاعوا التعبير عن ذلك بلغة جمالية توازي المقامات الجسدية ثم الروحية لديهم. فأدب الزهد والتصوف منذ القرن الثاني الهجري أخذ يكتسب سمات فنية جديدة؛ فأنغامه تعزف على إيقاع دقات قلب الصوفي، ولغته تتحرك في صميم طهارة جسده من أدران المادية... فالأدب الصوفي بما صار يحمله من زهد ووعظ وصفاء ورجاء جعله بحق ينشأ في وسط عربي إسلامي بعيد عن أي نشأة أخرى، وإن اكتسب مؤثرات أجنبية على مر الزمن بعد ذلك. وتظل لغة التصوف بجمالياتها من أهم الدلائل على نشأته الإسلامية؛ وكانت لغة الشعر العربي المجال الأعظم لأفكار التصوف ولغته... فلو رجع أي منا إلى شعر رابعة العدوية، ثم إلى أدب الزهد في أواخر القرن الهجري الأول ومن ثم القرن الثاني لاتضح له أن التصوف أخذ يشق طريقه بقوة إلى لغة الشعر... ويكسبها جمالاً ساحراً بكثرة الرموز والكنايات والإشارات والمفارقات والألغاز.... ولا بأس أن نقف عند بعض شعر رابعة حيث تقول:
أُحبُّك حُبَّين حُبَّ الهوى
وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حُبُّ الهوى
فذِكْرٌ شُغِلْتُ به عن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ لـه
فكَشْفُكَ لي الحُجْبَ حتى أراكا
فلا الحمد في ذا، ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
فلغة الحب ظلت قابعة في اصطلاحات الزهاد حتى أبرزتها رابعة؛ وصار الحب على يديها خالصاً لله لا خوفاً من نار ولا طمعاً في جنة.... فحبها له شغلها عن حب الخَلْقِ؛ لذلك عاشت حياتها لذكرهِ ومناجاتهِ في اتصال دائم لأنها عارفة به متشوقة للقائه، فالهوى كما نعرف: "ميل النفس إلى مقتضيات الطبع والإعراض عن الجهة العلوية بالتوجه إلى الجهة السفلية"... (اصطلاحات الصوفية ـ 117). ولكنه عند رابعة معكوس فهي تتطلع إلى مقام المحبة الإلهية في ثقة واطمئنان، وتجعل خَلْوَتها معه سبيلها إليه، فهو الخليل دون غيره كما في قولها:
وتخللت مسلك الروح مني
وبه سمي الخليل خليلا
فإذا ما نطقت كنت حديثي
وإذا ما سلكتُ كنتَ الخليلا
(الزبيدي ـ إتحاف السادة المتقين 9/277).
والخلْوة كما قال الكاشاني: "محادثة السر مع الحق بحيث لا يرى غيره، أما صورتها فهي ما يتوسل به إلى هذا المعنى من التبتل إلى الله". ـ (اصطلاحات الصوفية ـ 31)...... وذكر الله مرتبط بمناجاته وهو جزء من محبته؛ ومن ثم هو مقام من مقامات الصوفية؛ وكانت رابعة قد أسست له في قولها السابق؛ فالذكر لديها كشف رباني، ونور لها كما تقول أيضاً:
صلاتك نور والعباد رقود
ونومك ضدٌّ للصلاة عنيد
وعمرك غُنم إن عقلت ومهلة
يسير ويفنى دائماً ويبيد
فالنور بريدُ الذاكرين، وهو اسم من أسماء الله؛ لأن الله سبحانه يتجلى باسمه الظاهر الممثل بالأكوان ومنها النور، كما يراه أهل التصوف، والنور "قد يطلق على كل ما يكشف المستور من العلوم الذاتية، والواردات الإلهية التي تطرد الكون عن القلب" (اصطلاحات الصوفية ـ106).
فكل علم إنما هو من علم عَلاَّم الغيوب؛ والذكر هو الذي يؤدي إلى ذلك كما يقول ابن عربي؛ وكأنه يذكرنا بما قالته رابعة قبل قليل:
فالذكر يَحْجُبني والذكر يكشف لي
خَبْء السماء وخَبْءَ الأرضِ في نَبَأِ
فالذكر الأول الذي يحجب المتصوف إنما هو ذكر الكون والحياة، فلا يستطيع بوساطته أن يكشف الحقيقة؛ لكن الذكر الثاني وهو ذكر الله، يكشف له علم مالم يكن قد عرفه وخبره؛ فما لم يعلم يكشفه له الله، ولهذا قال أيضاً:
ومن تحقق بالآداب أَجْمَعِها
فكل عِلْم يُرى منه فمن أَدَبهْ
والتوبة أول مقام من مقامات التصوف؛ ـ وهذا المصطلح استعمل في بداية ظهوره في الإسلام استعمالاً دينياً خالصاً؛ كغيره من المصطلحات الدينية؛ ثم تحول إلى المقامات الصوفية كما سبق ذكرها. ففي القرآن تحمل طابعاً دينياً صرفاً، كمفهوم التوبة في قول الله تعالى: «إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين» (البقرة ـ 2/222)...... فالتوبة رجوع العبد إلى الله عازفاً عن كل ما يغضبه... وتتجلى التوبة بالسلوك والفعل.... وقد رأينا أن رابعة العدوية تقرر توبة الاجتباء والاصطفاء؛ توبة المحبين عن العجز على القيام بحق المحبوب ولهذا تقول: (الروض الفائق ـ 149).
يا حبيبَ القلبِ ومالي سواكا
فارحم اليوم مذنباً قد أتاكا
يا رجائي وراحتي وسروري
قد أبى القلب أن يجيبّ سواكا
هكذا ندرك أن التصوف عند رابعة ومن عاصرها، وما أسسه الدين الإسلامي من زهد وتقى وإيمان قد جعل المؤمن يتحول عن مطامع النفس وشهواتها وانحرافها ليصل إلى مرضاة الله عنه... ومن ثم أصبح التصوف مذهباً فكرياً وروحياً ينبع من تعاليم الدين ويرتبط باجتهادات أصحابه ورواده كإبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري وسعيد بن جبير وحبيب الأعجمي أبو سليمان داود الطائي (ت 160 هـ/ 777م). وغيرهم ممن عاصرهم أو جاء بعدهم...
فالتصوف في أدب الرواد وأفكارهم يتصف بخصائص روحية سامية؛ ويقوم على لغة خاصة به في وضعها الظاهري المفرد والمركب؛ وفي واقعها المباشر القريب والملموس في بعدها التأويلي..... فهي لغة حدسية تصورية تنحت مصطلحاتها من وظيفتها.
ولهذا لابد من الإشارة إلى متلقي النص الصوفي ولغته... فأي قارئ لهما سينتهي إلى خلط محقق إن لم يدرك الجمالية الخاصة بلغة المتصوف... فهذه اللغة تظهر في دلالاتها المباشرة للوهلة الأولى أنها منفتحة على ثقافة المتلقي زماناً ومكاناً؛ وهو قادر على تأويلها والتعبير عنها؛ ولكنها في الحقيقة ترتبط بمصطلحات التصوف ولغته وتاريخه وثقافته وتطورها... فضلاً عن تجربة أصحابه... وهذا كله يناقض مفهوم دراسة اللغة الأدبية وفق مفهوم نظرية النص المفتوح الذي نادى به أصحاب الحداثة؛ وفي طليعتهم رولان بارت. فاللغة عند المتصوفة نسق كبير ومتعدد لرموز ذات طابع تصويري غامض وخاص....
ولهذا، فانفتاح المتلقي على لغة النص الصوفي وجماليته يظل مشدوداً إلى قصدية صاحبه وتجربته وما يتعلق بمفاهيم التصوف ولغته إلغازاً وترميزاً وإشارة وإيحاء... وهذا ما عبر عنه ابن عربي في قوله: (الفتوحات المكية 1/174).
منازل الكون في الوجود
منازل كلها رموز
وقال : (الفتوحات المكية 1/188).
ألا إن الرموز دليل صدق
على المعنى المغيب في الفؤادِ
وإن العالمين لـه رموز
وألغاز ليدعى بالعبادِ
فمعرفة لغة التصوف لا تؤخذ بظاهرها؛ وإنما تحتاج إلى فك رموزها وتأويل دلالتها البعيدة.... لأنها اعتمدت على مفهوم قَلْبِ اللغة.... فقد كنا ننطلق من المفهوم الحسي إلى المجرد فصارت لغة التصوف تنطلق من المجرد إلى الحسي... فهي لغة تجريدية إشارية وإن استعملت لغة محسوسة وعناصر فنية مشهورة كالخمرة والمرأة واللون.... وقد أدرك اليافي هذا كله فقال: "التعبير الصوفي يترجح بين الطرفين: الرمز من جهة والتجريد من جهة المقابلة. فالشاعر إما أن يعتمد الرمز والإشارة والإيحاء والاستعارة والتشبيه وما إلى ذلك لتقريب أفكاره من المألوف المتعارف عليه وللإيحاء بعواطفه ولتصوير بعض ما عاناه؛ وإما أن يدرك في تجربته من أسرار تتأتى على أدق أساليب البيان وتصعب على وسائل التعبير" ـ (دراسات فنية في الأدب العربي ـ 317).
فانكشاف عالم التصوف بما هي عليه اللغة الشعرية المألوفة لا يعني شيئاً، والقصدية لا تتعلق بالمستوى الظاهري للغة التصوف وإنما تتصل بالمستوى الباطني الخفي... فنحن أمام انزياح لغوي وعجيب؛ وأمام علاقات فنية مدهشة، ومصطلحات ذات دلالة بعيدة.... فاللغة الصوفية تضعنا في حضرة وجود مدهش في القرب ولكنه يتأبى على الفهم إلا بعد تجليات وكشف لحجب التجربة في الذات والمجتمع في إطار الزمان والمكان والثقافة والدين والاتجاه....
لهذا كله فالألفاظ والتراكيب والصور الشعرية في الحب والغزل والخمْرة والسكر والمرأة والطبيعة، ومن ثم في الحواس والأعداد والحروف، وفي الحركات والسكنات، والإيقاع والأنغام، تستعمل استعمالاً مغايراً لاستعمالات بقية الناس والشعراء. فقد اقترن القدسي لدى المتصوفة بالإنساني والكوني، وأضحى الجمال المادي جمالاً معنوياً لعالم غير متناهٍ.
ولهذا كله فالعناصر الفنية مرتبطة باللغة؛ وبما تقوم عليه من رموز لتجليات النفس والفكر؛ واصطبغت بمفارقات عظيمة الإلغاز... وإن من يتأمل هذه المفارقات اللغوية لا يكفيه أن يتوقف عند المستوى النظري واللغوي والمعجمي لها، وإنما يستلزم التأمل فيها الوصول إلى ما تقوم عليه من معطيات عرفانية ومعرفية... فالوظيفة التي تؤديها لغة التصوف ليست مجرد وظيفة إبلاغية أو استشهادية أو انطباعية وإنما هي وظيفة فكرية نفسية تأثيرية إفهامية ذات أبعاد محددة عن أفكار صاحبها ومشاعره الخاصة.
وبهذا لا يستطيع المتلقي أو القارئ أن يتماهى مع لغة الصوفي إذا لم يندمج بمعارفه ومعارجه ويضبط التقاطعات الرمزية لتلك اللغة... وهذا لا يمثل عجزاً صريحاً في الإدراك.... وإنما يجسد وعياً فاعلاً لكيفية فهم اللغة الخاصة التي يستعملها الصوفي في معارجه العقلية ومقاماته الروحية والمراتب العلية القدسية....
فلغة الصوفي ليست محايدة في وضْعها التعبيري وفي حوارها المناجي للذات ومن ثم مناجاة الذات الإلهية، وهي غير مدركة في صراحتها.... ولكن هذا لا يعني ـ على تشابهها الظاهري ـ أنها متماثلة أو معقدة؛ أو غريبة؛ بل هي متعددة لتعدد المعارج بتعدد أصحابها؛ إذ لكل صوفي معراجه؛ وكل واحد منهم لا يسرف في توضيح معراجه الذي يصعد إليه في مناجاته لله ومحبته لذاته.... ومن ثم تنقاد بعد استغلاق إذا فهمنا رموزها.....
ولا يضيرنا مرة أخرى أن نرجع إلى مفهوم الحب الإلهي؛ فحين فتحت رابعة العدوية باب المحبة لله لما خصها به من نعمائه فإنها فنيت في الله؛ وصار حبها لله يحمل أنواعاً جديدة؛ منها الحب المشاهد باليقين وبصفات الله، ومنها الحب لذات الحب؛ ثم الحب لذات المحبوب.... كما في قوله: (الروض الفائق ـ 118).
راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوض
وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنت أشاهد حسنه
فهو محرابي؛ إليه قبلتي
إن أَمت وجداً ومن ثم رضاً
واعنائي في الورى! واشقوتي!!
يا طبيب القلب يا كل المنى
جُد بوصلٍ منك يشفي مهجتي
فالحب الإلهي قد صار الحال الغالب للصوفية حتى استلمه ابن الفارض المتوفى (632هـ)، فغدا بحق سلطان العاشقين وإمام المحبين، كما في قوله: (168).
فمن لم يمت في حبه لم يعش به
ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
ثم أصبح الحب الإلهي عند ابن عربي (ت638هـ) ديناً يدين به وشوقه الأبدي إلى الله وحده، كما في قوله:
أدين بدين الحب أنَّى توجهت
ركائبه، فالدين ديني وإيماني
وارتبط الحب الإلهي بجملة من المقامات الروحية الممثلة بالخلوة والخلة والتوبة والخوف والرضا... ولكل رموزه اللغوية وإشاراته التأويلية الصوفية.
فاللغة عند المتصوفة لغة حوار داخلي؛ ومن ثم فهي كأنها لغة صامتة يتم الإشهاد بها على الانتماء إلى بعد إشاري وإيحائي لا بعد ملموس وواضح........ ثم هي لغة ذوقية روحانية أساسها الجذب والفيض...... والرمز....
جمالية لغة التصوف تنبع من أبعادها الرمزية للألفاظ والتراكيب والصور الشعرية... فالخمرة ـ مثلاً ـ وما يرتبط بها من مصطلحات النشوة والسكر والشرب... لا ترتبط بمفهوم تاريخي أو وصف مادي ظاهري، ولا تحمل الوظيفة القديمة التي عرفها الشعراء والناس.... لوناً وطعماً وصفاء و..... وسقاة وأواني وحانات... فالصوفي يستعمل ذلك كله؛ وقد تخدعك طرائقه الفنية إذا تسرعت بالحكم عليها في ضوء ما انتهى إلينا من طرائق وصف الخمرة.... لأن وظيفتها عنده مغايرة تمام المغايرة للمألوف...
فالخمرة لديه هي خمرة المعرفة، ويشربها العارفون، فتُحْدِث فيهم أثراً عجيباً وهو السكر من نشوة المعرفة... والسكر ـ كما قال الكاشاني ـ : "الحيرة بين الفناء والوجود في مقام المحبة الواقعة بين أحكام الشهود والعلم؛ إذ الشهود يحكم بالفناء، والعلم يحكم بالوجود"(اصطلاحات الصوفية ـ 206).
فنشوة الحب الإلهي عند الصوفي يطلق عليها (السكر)، وهي تشبه في آثارها إلى حد كبير السكر الحسي؛ ومراتبها الأربع (الذوق والشرب والري والسكر). ولهذا استعان الصوفي بالخمرة وتغنى بها حتى اتهم بالسكر والعربدة... وقدتحدَّثت رابعة العدوية عن شيء من ذلك في معرض قولها المنسوب إليها: (رابعة العدوية ـ محمد عطية خميس 97).
كأسي وخمري والنديم ثلاثة
وأنا المشوقة في المحبة رابعهْ
كاس المسرة والنعيم يديرها
ساقي المدام على المدى متتابعهْ
فإذا نظرت فلا أرى إلا له
وإذا حضرت فلا أُرى إلا معه
يا عاذلي!! إني أحب جماله
تالله؛ ما أُذْني لعذلك سامعهْ
فلو تركنا مسألة الإلغاز في العدد في بيتها الأول، ما غفلنا عن ذكرها لأدوات الخمرة وصفاتها وسقاتها وكيفية شربها؛ ومن ثم الوصول إلى حالة الانبساط والانتشاء... فهي منتشية بذكر الله... فخمرتها خمرة الحب الإلهي التي تشربها من كؤوس العارفين كما تقول: (عقلاء المجانين ـ للنيسابوري 112).
قلوب العارفين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرونا
وألسنة بسر قد تناجي
يغيب عن الكرام الكاتبينا
وأجنحة تطير بغير ريش
إلى ملكوت رب العالمينا
فنسقيها شراب الصدق صرفاً
وتشرب من كؤوس العارفينا
ولسنا الآن في معرض تقصي اختلاف أهل التصوف لمفهوم السكر والصحو، وما الذي يرونه فيهما؛ ولكننا ندرك أن لهم جمالية خاصة في أسلوب ذكر الخمرة ومصطلحاتها فهو يجسد: "أسلوباً رمزياً حافلاً بالثراء؛ يلوحون به على طريقتهم إلى مجموعة ثابتة من المعاني الذوقية. وقد أعطى الصوفية هذا المعجم الخمري دلالات جديدة خرجت بالخمر إلى دائرة الرمز الصوفي. والصوفية يستخدمون الألفاظ نفسها التي نجدها في شعر الخمر الحسية كالندمان والدنان؛ إلا أنهم يشيرون بهذه الألفاظ إلى معاني الحب والفناء والاتحاد". (شعر ابن الفارض ـ دراسة في فن الشعر الصوفي 132 عاطف جودة نصر).
وكل من يتأمل الأبيات السابقة يدرك ما تكشفه من جمالية فريدة في الألفاظ والتراكيب والصورة الشعرية الممثلة من اجتماع الحركة والسكون، والجميل والقبيح في النفس والفكر... فجمالية اللغة تنقل المرء من الذوق إلى حال المحبة والفناء... فكلما استوحشت رابعة ونفرت من الناس ازدادت يقيناً بألفتها للمحبة الإلهية في حال الانفراد والخلوة؛ وهي تقف في محراب اليقين العرفاني.
وأكتفي بهذا القدر من جمالية الرمز الصوفي في الخمرة وهو لا يقل جمالية وسحراً عن ذكر المتصوفة للرمز في الطبيعة والمرأة والعدد... و.... لنقف عند جوانب لغوية أخرى.
ومن هنا فإن المتصوفة وجهوا اللغة بألفاظها وتراكيبها وأساليبها في اتجاه يخّتصون به دون غيرهم ولهذا قال الحلاج: "من لم يقف على إشارتنا لم ترشده عبارتنا".
فهي ـ على اتصالها بألفاظ القرآن والإسلام؛ وعلى انطباعها بالثقافة الإسلامية ـ ذات دلالة خاصة في المعجم اللغوي الصوفي لفظاً وتركيباً وبلاغة وإيقاعاً...
ولهذا تصبح للألفاظ الآتية ـ على سبيل المثال ـ أنساق دلالية وأسلوبية دقيقة ورمزية تعبر عما يختلج في نفوس المتصوفة من مشاعر وأفكار: (الخلوة والحبيب والحضرة والوجد والرضا والهوى، والشقاوة والوصل والمنى والمجاورة والنشأة والنشوة.... والبصيرة والأنس والعين والصَّبا والنور والصدق والحجاب والسرور والرجاء.... فالحجاب: "انطباع الصور الكونية في القلب المانعة لقبول تجلي الحقائق"ـ (اصطلاحات الصوفية ـ 26). والصَّبا: "هي النفحات الرحمانية الآتية من جهة مشرق الروحانيات والدواعي الباعثة على الخير" ـ (اصطلاحات الصوفية ـ 47). والرجاء: "توقع النجاة، وصورة الرجاء في الأبواب: رجاء الثواب بالاجتهاد في العمل ودرجته في المعاملات رجاء القرب والكرامة بالحرمة والرعاية" (اصطلاحات الصوفية ـ 135). والسرور: هو "ابتهاج في الباطن يظهر به تهلل ونضرة في الظاهر، وهو سرور شهود يكشف حجب الصفات بأسرها ويخلص من رقة التكاليف كلها" (اصطلاحات الصوفية ـ 193). ونجد مثل هذا كله في قول رابعة العدوية: (الروض الفائق ـ 118).
راحتي يا إخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً
وهواه في البرايا محنتي
يا سروري وحياتي دائماً
نشأتي منك، وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلق جمعاً أرتجي
منك وصلاً، فهو أقصى منيتي.
وتغدو التراكيب والأساليب من جنس الألفاظ ودلالتها الوظيفية لدى الصوفيّة؛ فهي مجازية رمزية... وكلها تجليات للنفس والفكر؛.... فالصيغ اللغوية ذات جمالية جذابة ممتعة في المفارقات الملغزة بين الفعل والانفعال والعقل والعاطفة، والمدرك والغيبي؛ والفردي والكوني.... والحسي والمجرد...
ومن هنا يصبح لظاهرة النداء وأسلوب التكرار وغيرهما وجوه بلاغية ودلالية عجيبة؛ تدل على خطاب شعري رفيع المستوى، وكلها تدل على وجد فياض بين المناجي وربه.....
وهي تدل على منهج جمالي استبطاني تأملي لإخراج غير المدرك في صورة بديعة هدفها إيجاد علاقة متميزة وفاعلة بين الجمال والخير؛ فالنفس تشعر في الخير: "بجمال علوي مجرد من عوارض المحسوس" ـ (الرمز الشعري ـ101)..... مما جعل التراكيب الشعرية ذات بنيات جمالية تناظر الأنشطة النفسية والفكرية وليست مجرد تراكمات مجازية ورمزية.
وكذا نجد في جمالية الإيقاع والموسيقا، فالنداء ليس مجرد بنية جمالية تموج بالمناجاة والابتهال؛ والتكرار ليس مجرد تكرار للفظ أو معنى يعبر عن فيض العاطفة الشفافة، وإنما هما ظواهر إيقاعية متناغمة ومتّسقة مع ذلك كله. وهذا كله نزع بالشعر الصوفي إلى التقسيم والتشطير والتخميس..... وكأنه ما قيل إلا لينشد في حلقات الذكر التي شاعت فيما بعد عند المتصوفة.... فإذا كانت اللغة الصوفية الرمزية تنبع من عقال الفكر؛ فإنها مبنية على بنىً موسيقية معادلة لذلك في صميم المشاعر والتأثير في الترصيع والتدبيج.....
وأينما تلفت المرء في الشعر الصوفي وقام برصد دقيق للغته وأساليبه اهتدى إلى ذلك سواء بالأمثلة السابقة أم في غيرها. فلغة التصوف في جماليتها المميزة لها تخلق وحدة فنية ومن ثم شعورية وفكرية ترتفع بالمشاعر وهي تعبر عن تجربة عرفانية فريدة تكشف الدلالة بوعي مرهف وحس وثاب قائمة على قصدية منفتحة على تصور شديد الخصوصية. وكذلك هي لغة المتصوفة التي اخترعوها، فهي على رقتها وسهولتها وتنوعها ذات دلالة اشتقاقية خاصة.
لهذا نقول: "أياً كان الحديث عن لغة التصوف وجماليتها، فإنه لا يحاط بها؛ لأن كل عنصر جمالي فيها؛ وفي بنيتها الفنية ووظيفتها الدلالية يحتاج إلى درس مستفيض.... ويكفي ما قبسنا منها ليكون صورة مضيئة لدراسات شتى، على أهمية ما صدر من دراسات في التصوف قديماً وحديثاً.... ولعل من أحسن الأمثلة قول رابعة العدوية الذي يتضمن شيئاً مما ذكرناه: (الروض الفائق ـ 117).
يا مؤنس الأبرار في خلواتهم
ا خير من حَلَّت به النُزَّالُ
من ذاق حبك لا يزال متيماً
مرح الفؤاد ـ متيماً ـ بلبالُ
من ذاق حبك لا يُرى مبتسماً
من طول حُزْنٍ في الحشا إشعال.
ومما تقدم كله، نخلص إلى أن جمالية لغة التصوف تكمن في كونها ذات معان وأساليب تدور على ما اتفق عليه أهل التصوف... وحين يتوقع أحدنا أنه اطلع على دلالتها وتعبيراتها فإن أشياء جديدة تبدأ بالظهور وفق مفهوم الوجد والفيض وتجليات الحدس والنفس.... في صميم الفكر التأملي والبنى المعرفية لأفكارهما وتجريداتها الرمزية.
لهذا إذا ظن المتلقي أنه قادر على إدراك تلك الجمالية في إطار التقابل بين لغة التصوف وما انطوت عليه من دلائل معجمية، أو من أساليب موروثة في البلاغة أو ما اختزنه من ثقافة وتجربة قديمة أو حديثة فإنه لن يجني من النص الصوفي إلا السراب.
فمتلقي النص الصوفي عليه أن يقوم بعملية رصد واختراق للغة المتصوفة وكناياتهم واستعاراتهم ورموزهم وأن يتفاعل فيها محاولاً تمثل التجربة ومن ثم فهم ملابساتها.... ليقبض على طبيعتها وجمالياتها.....
المصدر: مجلة الموقف الأدبي
مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 364 آب 2001
رأي في تأصيل كلمة صوفي
د. أمين عودة
إن كلمة " صوفيا" أو "سوفيا" الشق الثاني من " فيلا سوفيا" وتعريبها كما هو معروف "فلسفة" هي من الكلمات المقترحة عند بعض المستشرقين والعرب التي اشتق منها مصطلح التصوف مبنى ومعنى. ولعل البيروني أول من شدا بهذا الرأي في كتابه " تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" وفيه يقول:" … وهذا رأي الصوفية وهم الحكماء، فإن "سوف" باليونانية الحكمة، بها سمي الفيلسوف "بيلا سوبا" [= فيلا سوفيا"> أي محب للحكمة، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سُمُّوا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضُهم، فنسبهم للتوكل إلى الصفة… ثم صُحِّف بعد ذلك فصُيّر من صوف التيس. وعدل أبو الفتح البستي عن ذلك أحسن عدول في قوله:
د. أمين عودة
إن كلمة " صوفيا" أو "سوفيا" الشق الثاني من " فيلا سوفيا" وتعريبها كما هو معروف "فلسفة" هي من الكلمات المقترحة عند بعض المستشرقين والعرب التي اشتق منها مصطلح التصوف مبنى ومعنى. ولعل البيروني أول من شدا بهذا الرأي في كتابه " تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" وفيه يقول:" … وهذا رأي الصوفية وهم الحكماء، فإن "سوف" باليونانية الحكمة، بها سمي الفيلسوف "بيلا سوبا" [= فيلا سوفيا"> أي محب للحكمة، ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم سُمُّوا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضُهم، فنسبهم للتوكل إلى الصفة… ثم صُحِّف بعد ذلك فصُيّر من صوف التيس. وعدل أبو الفتح البستي عن ذلك أحسن عدول في قوله:
تنازع الناس في الصوفي فاختلفوا
قْمـا وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
افى فصوفي حتى لقب الصوفي (1)
قْمـا وظنوه مشتقا من الصوف
ولست أنحل هذا الاسم غير فتى
افى فصوفي حتى لقب الصوفي (1)
وتلقف غير قليل من المسشرقين والعرب رأي البيروني، وذهبوا مذهبه في اشتقاق مصطلح التصوف من " فيلا سوفيا". وقد يكون البيروني وقع على مقترب من الحق في رأيه هذا، لا الحق نفسه. أما الرأي الذي يرجحه البحث العلمي، وتطمئن إليه النفس، فهو أن كلمة "سوفيا" أو "صوفيا" ليست يونانية الأصل، إنما هي مما اقترضته اليونان من غيرهم، يشهد على ذلك قول أفلاطون نفسه على لسان سقراط في محاورة كراتيليوس في فلسفة اللغة، عندما سئل عن كلمة "سوفيا".
قال: " كلمة [سوفيا"> (= حكمة) غامضة جدا، وتبدو أنها ليست من أصل محلي"(2). هذا اعتراف أفلاطون بأن الكلمة ليست من أصل يوناني. والذي يرجح صواب رأيه أن كلمة " صوفيا أوسوفيا" عروبية المولد والهوية؛ ففي الأكادية، اللغة العروبية في العراق القديم، تجد كلمة Safu " صافو" التي تعني " يدعو، يصلي" وكلمة Sufu" صوفو" ومعناها " دعاء، صلاة". وثمة عبارة في الأكادية تقول: Semat tisliti u supia ( وعربيتها: سمة " أي علامة " تصلية " صلاة" و " صفاء" ) وكثيرا ما يقترن استعمالها في الأكادية بكلمة " الصلاة". كما أن من معانيها: التبتل، والخشوع، والنسك، … والصفاء. وهذه كلها من سمات الحكيم أو الفيلسوف، ومن قبلهما الصوفي.
وإذن، فالظاهر أن أصل كلمة "صوفيا" في اليونانية، مقترض من الأكادية: Sopia أو Sufia التي تدل على الزاهد العابد والمعني بأمور الغيب. فهل يبعد هذا عن معنى الحكيم والفيلسوف؟! ومن البين الجلي أن هذه المعاني أو ظلالها تجدها في الجذر العربي " صفا"(3).
وخلاصة القول إن كلمة التصوف لها أصل اشتقاقي عريق، وهي كلمة عروبية عروبة اللغة نفسها، وقديمة قدمها. وأحسب أن التصوف الإسلامي اصطفى هذه الكلمة، وإن لم تع الذاكرة الجمعية أصلها البعيد، وثوّرها، وضخ فيها من روح الإسلام وفلسفته، وجعلها عنوانا على مضمار الروح، وخلاصة هذا الدين الحنيف. وهذا بصرف النظر عن اجتهاد المجتهدين من أعلام التصوف ودارسيه، لما راحوا ينقبون عن اشتقاق كلمة التصوف، هل هي من الصفة أو من الصف الأول أو من الصوف أو من الصفاء …- فلكل واحد منهم اجتهاده الخاص - لأنك إذا أمعنت النظر فيما انطوت عليه هذه الألفاظ من معان مباشرة وغير مباشرة، ألفيتها زاخرة بمعان من نحو الدعاء والصلاة والزهد والصفاء والحكمة التي هي أس التصوف ولبه. ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
وأكثر القدماء من الذين أرخوا للتصوف، يرون أن كلمة صوفي نسبة إلى الصوف، ولبس الصوف كان من دأب الأنبياء والزهاد والصلحاء، ثم صار شعارا على الزهد والتصوف.
وليس من المستبعد في التطور اللغوي في هذا السياق، أن تنـزاح دلالة الصوف إلى الصفاء، وتجذبها إلى دائرتها الدلالية، ليغدو الصفاء من جملة ما تستضمره كلمة الصوف في محيط تداولي يسعى إلى تصفية الروح، وتنقية السريرة من عوائق الدنيا، وعوالق النفس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله صلاة وتسليما يليقان بقدره عند رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
1 أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الهند، 1958، ص 24-25.
2 ترجم المحاورة وقدم لها بدراسة تحليلية الدكتور عزمي طه السيد أحمد، منشورات وزارة الثقافة، ط1، عمان، 1995، ص149.
3 انظر ما كتبه الدكتور علي فهمي خشيم في تأصيل كلمة " فيلاسوفيا" في كتابه: رحلة الكلمات: الرحلة الأولى، مركز الحضارة العربية، ط2، القاهرة، 2001، ص، 97-98.
المصدر: http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=1291
اليوم لا تفوتكم هذه المخطوطات الشعرية
ردحذفhttps://www.ouarsenis.com/up/fileuser-211625.html
وهل العلم يوصي ندز ونزيد نكرس؟؟؟؟؟؟؟؟
http://taha1990.banouta.net/t26-topic
المزيد
https://www.scribd.com/user/15065089/Rabai-Ouisaada
هاتف 213797553814
boutaflika.un.pd@gmail.com
حديث التاصوف بجامعة الامير للعلوم الاسلامية..الخرا فايض
ردحذفقضربي 27 ديسمبر، 2018 في 12:39 م
تعليقك في إنتظار مراجعه المدير.
مجموعتي.2003…1..السرقات الادبية
http://www.scribd.com/document/387885814/مجموعتي...
Sheet Music. 3 views. 0 Up votes, mark as useful Up votes, mark as useful
المهم ما يشبه المثليين
https://fr.scribd.com/document/393872577/%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D9%86pd-%D8%AA%D8%B3%D9%8A%D9%8A%D8%B3-%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%81%D9%84%D9%8A%D9%82%D8%A9
باليمينpd تسييس جامعة الامير وبوتفليقة
Transféré par Rabai Ouisaada
حوالي 18.500 من النتائج (عدد الثواني: 0,51) نتائج البحث نتائج بحث الويب باليمين PD تسييس جامعة الامير وبوتفليقة : ربيع سعداوي : … https://archive.org/details/boutaflika_PD 10/10/2…Description complète
نقلا عن https://hatemali.net/?p=544#comment-689